حسم المنتخب السوداني تأهله إلى نهائيات كأس الأمم الأفريقية «المغرب 2025» عقب تعادله مع ضيفه المنتخب الأنغولي في الجولة السادسة والأخيرة من مباريات المجموعة السادسة ضمن التصفيات المؤهلة للبطولة.
ويعد هذا هو التأهل العاشر في تاريخ المنتخب السوداني إلى كأس الأمم الأفريقية. تأهل أتى من رحم المعاناة التي يعانيها السودان الشقيق منذ أكثر من عامين من بداية الحرب.
مر أكثر من عامين على اندلاع الحرب في السودان بين قوات الدعم السريع والجيش، أدت إلى مقتل الآلاف وتشريد ملايين في كارثة إنسانية يندى لها جبين الإنسانية كافة.
في كتابه «ذاكرة للنسيان» الذي يروي فيه يومياته أثناء حصار بيروت 1982، يتحدث الشاعر الفلسطيني محمود درويش عن أن كرة القدم كانت الملاذ له ولرفاقه من الحرب الدائرة في الخارج.
يكتب درويش عن شغف المحاصَرين بمشاهدة مباريات كأس العالم، حيث يتوقف القصف أحياناً حتى تنتهي بعض المباريات المهمة. كان درويش ورفاقه المحاصرون ينزلون إلى قبو إحدى البنايات ليشاهدوا الحرب الصغيرة الدائرة في الملعب، متناسين، ولو إلى حين الحرب الكبيرة الدائرة في الخارج، التي تستهدف اللبنانيين والفلسطينيين، حيث تتوقف آلة القتل الإسرائيلية ساعة ونصف الساعة تقريباً، هي وقت المباراة.
لطالما لعبت كرة القدم هذا الدور على مر تاريخها، حيث نبعت كفكرة في الأساس من رحم الحروب، وكاستعاضة عنها، وخصوصاً البطولات والمسابقات القارية التي تتبارى فيها الشعوب والثقافات والصراعات التاريخية، ولكن في ميدان الرياضة.
في السودان يولد الطفل ويحمل بين أضلاعه شغف كرة القدم، حتى نكاد نجزم أن كرة القدم بإمكانها أن تقص لنا تاريخ السودان السياسي والعسكري الذي عاصرته، فكيف ذلك؟
في عام 1957، تأسس الاتحاد الأفريقي لكرة القدم، على إثر مقترح من رئيس الاتحاد السوداني للعبة آنذاك، عبدالحليم محمد، خلال مؤتمر الاتحاد الدولي لكرة القدم الثالث في لشبونة، وشارك في تأسيس «الكاف» أربع دول وهي: مصر والسودان وإثيوبيا وجنوب أفريقيا.
تولى المصري عبدالعزيز عبدالله سالم منصب رئاسة الاتحاد الأفريقي، ليكون أول رئيس للاتحاد عبر تاريخه، وكان تأسيس بطولة قارية للمنتخبات على رأس أولويات «الكاف» في هذه الفترة.
أقيمت بطولة كأس الأمم الأفريقية لكرة القدم في السودان للمرة الأولى عام 1957 تحت اسم «كأس عبدالعزيز عبدالله سالم» بمشاركة أربعة منتخبات وهي: مصر، والسودان، وإثيوبيا، وجنوب أفريقيا.
لكن تم استبعاد جنوب أفريقيا من البطولة بسبب اتباع سياسة التفرقة العنصرية بين البيض والسود داخل البلاد.
وصعدت أثيوبيا إلى النهائي مباشرة، بعد استبعاد جنوب إفريقيا، وتمكن المنتخب المصري من الفوز على نظيره السوداني بهدفين لهدف.
في المباراة النهائية، فازت مصر برباعية نظيفة على إثيوبيا، سجلها بالكامل محمد دياب العطار، ليكون أول هداف للبطولة الأفريقية عبر تاريخها برصيد خمسة أهداف، وزيَّنت النجمة الأولى قميص منتخب الفراعنة.
بعد ذلك بعامين، استضافت مصر كأس الأمم الأفريقية الثانية في القاهرة بمشاركة نفس الفرق الثلاثة، وقد أقيمت البطولة بنظام المجموعة الواحدة، ونجح منتخب الفراعنة في حصد اللقب للمرة الثانية على التوالي بقيادة الثنائي محمود الجوهري وميمي الشربيني، وحصد الجوهري لقب هداف هذه النسخة من البطولة برصيد ثلاثة أهداف.
كانت شرارة بداية كأس أمم أفريقيا من السودان، وللسودان تاريخ طويل مع كرة القدم، حتى وصل إلى لحظة تأسيس أمم أفريقيا تلك، ربما نستطيع القول إننا لا نبالغ إذا ذكرنا أن كرة القدم بإمكانها أن تحكي لنا تاريخ السودان الحديث بأكمله، دعنا نرى.
في نهاية القرن الـ19 وقعت السودان ومصر تحت وطأة الاحتلال الإنجليزي، ومن حينها عملت السلطات البريطانية على ترسيخ وجودها في كل مناحي الحياة، السياسية والاجتماعية والرياضية.
لعب الجنود الإنجليز كرة القدم في أوقات فراغهم، التي كانت تُصنع لهم من جلود الحيوانات، حينها شاهدها العمال السودانيون الموجودون داخل المعسكرات الإنجليزية لإنجاز المهن اليومية، وأرادوا نقلها إلى أحيائهم.
صنع السودانيون كرة من لفائف القماش والجوارب، وصاروا يركلونها دون أي قوانين في ميادين قريبة من المعسكرات الإنجليزية، إلى أن تولدت رغبة لدى بعض الشباب في إنشاء نوادي كرة قدم محترفة.
كانت مدينة عطبرة هي أولى المدن السودانية التي عرفت كرة القدم بسبب استيطان الإنجليز في شمال السودان، ثم انتقلت منها إلى الخرطوم، تشكل في الخرطوم «فريق الطلبة» الذي سيطلق عليه فريق النيل، ثم تكونت فرق أخرى في أم درمان، كان أغلبها من العسكريين الذين يخدمون مع الإنجليز، أو من طلبة الجامعات.
بدأ تشكيل الأندية في السودان بأسماء ليست مشهورة، ولم تكن هناك بطولات رسمية، بل بعض المباريات الودية في أم درمان والخرطوم، ولم يكن هناك ما يربط بين المدن من طرق ممهدة وجسور، يسمح بإقامة منافسات رسمية.
عام 1918، تشكل نادي الخريجين، وهو الأندية الرياضية التي حملت طابعاً سياسياً في وجود الاحتلال، وكان يمتزج نشاطه بين الرياضة، ومقاومة الاحتلال.
كانت الفترة بين 1918 و1924 فترة رواج النشاط السياسي داخل الأندية الرياضية، فأقيمت عدة منافسات بإشراف سلطات الاحتلال، وبأسماء تخلد رجالاً إنجليزيين أو أحداثاً بريطانية سودانية، مثل كأس السابع من يناير، وهي ذكرى زيارة الملك جورج الخامس للسودان.
ثم جاءت اللحظة الحاسمة التي أغلق فيها الاحتلال الباب أمام ذلك الحراك الرياضي، ففي 1924 اغتيل لي ستاك لدى زيارته القاهرة، مما أحدث هزة في الوسط السوداني عامة، إذ ألغت سلطات الاحتلال التجمعات الشعبية أياً كان شكلها، حتى الأفراح والأتراح.
كان لثورة اللواء الأبيض تداعياتها على الحركة الرياضية، فقد فطنت سلطات الاحتلال لخطورة كرة القدم في تجميعها الشباب السوداني وتحفيزهم للثورة ضد الاحتلال، فقامت بإغلاق الباب أمامها، ولم تعد النشاطات الرياضية حتى نهاية 1926، عندما بدأ تسجيل الفرق الرياضية بشكل رسمي.
وكان تسجيل الفرق يجري عند المفتش الإنجليزي في كل مدينة من العاصمة المثلثة؛ الخرطوم بحري والخرطوم وأم درمان، وكان الهدف من التسجيل هو حصر المشاركين خوفاً من أي تحرك سياسي.
وقد أدى فتح الباب بتسجيل الأندية إلى دخول الكرة السودانية مرحلة أكثر مؤسسية، وانتشرت الأندية المسجلة رسمياً، وعلى الرغم من كونها أندية سودانية فإنها لم تحظ بأسماء سودانية، إذ كانت تنشأ قسراً تحت إشراف سلطات الاحتلال، ممثلة في الحاكم العام ومفتشي المدن الكبيرة.
على الرغم من أن النادي سوداني اللاعبين والمدربين فإن المحتل هو من اختار اسمه فمثلًا، كان نادي الوطن في عطبرة يسمى «توماس"، ونادي هلال الساحل في بورسودان يسمى «وينجيت"، بينما نادي الاتحاد البحراوي كان يسمى «زالاتين»، ولا يزال نادي «كوبر» باسمه حتى يومنا هذا.
بقي الحال هكذا حتى 1927، حين نجحت مجموعة من الضباط السودانيين في كلية أم درمان بإنشاء النادي الذي سيكون منذ تلك اللحظة شيخ الأندية السودانية، إنه نادي «المورَدَة»، وكان لهؤلاء الضباط دور كبير في مقاومة المحتل.
توالى بعد ذلك إنشاء الأندية السودانية حتى جاء فبراير 1930، فأنشئ النادي الذي سيكون رائداً للحركة السودانية بدروبها المتنوعة. وبينما المؤسسون جلوس في ليلة أُنس يفكرون في اختيار اسم للنادي، إذ طلع عليهم قمر تلك الليلة لينير لهم جلستهم، فقالوا: هو «الهلال» إذن. ليكون أول نادٍ يطلق عليه هذا الاسم في الوطن العربي.
اكتسب الهلال جماهيرية واسعة بسبب مواقفه المناهضة للاحتلال، ونشاطاته التطوعية والسرية التي كانت تجتذب الوطنيين السودانيين، حتى كان يسمى «نادي الحركة الوطنية»، وحدث أن كان الهلال ممنوعاً من المشاركة في إحدى المنافسات، وجاء الحاكم الإنجليزي لحضور البطولة فلم يجد جمهوراً، فتوجه من فوره ليجد الجماهير محتشدة لأحد تمارين الهلال، فقال: لا بطولات إذن من دون الهلال.
لم يسجل أن لعب السودانيون مع الإنجليز في مباراة، لكن المحتلين كانوا حريصين أن يلعب السودانيون تحت مراقبتهم اللصيقة، فالبريطانيون يعون تماماً ماذا يعني أن يتركوا السودانيين ليديروا نشاطاتهم الرياضية بأنفسهم.
كانت الأندية السودانية ممنوعة من ممارسة أي نشاط سياسي، مع أن كثيراً من أعضائها كانوا من الناشطين سياسياً، ولهذا كانت تنتهز أي مناسبة للمشاركة في الأنشطة الوطنية والاجتماعية والتطوعية، وكانت تقيم البطولات لدعم التعليم، لأن التعليم وقتها كان حكراً على علية القوم وأبناء العاملين مع الإنجليز.
في 1933 دعا نادي التذكار مجموعة من أندية العاصمة المثلثة لتكوين نقابة أو اتحاد لتنظيم نشاطات كرة القدم، ويشرف عليه السادة علي الميرغني وعبدالرحمن المهدي والشريف الهندي، وهم زعماء الطوائف الدينية في ذلك الوقت، فتنبه الاحتلال لخطورة ذلك الأمر، وقام في مطلع 1936 بتشكيل الاتحاد السوداني لكرة القدم بإدارة إنجليزية خالصة، ورئاسة فخرية للحاكم العام.
بعد إعلان السودان دولة مستقلة في يناير 1956، جاءت الفرصة ليكون الدكتور عبدالحليم محمد أول رئيس للاتحاد السوداني لكرة القدم، وعضوية سودانية كاملة، لتشهد كرة القدم السودانية أزهى أيامها وطنياً وعربياً وأفريقياً، ومنذ ذلك الوقت دأب الاتحاد على تنظيم المسابقات المحلية بمستوياتها المختلفة.
شهد عام 2023 أحداثاً مأساوية في السودان جعلت منه العام الأسوأ في تاريخ البلاد حيث اندلعت فيه حرب طاحنة بين الجيش وقوات الدعم السريع انطلقت من قلب العاصمة الخرطوم، لتمتد إلى أكثر من 60% من مساحة البلاد؛ مخلفة نحو 12 ألف قتيل، وتشرد بسببها أكثر من سبعة ملايين تشتت بهم السبل داخل البلاد وخارجها.
خلفت حرب الخرطوم أضراراً عدة لم تقتصر تبعاتها على المستويين الاقتصادي والسياسي فقط، بل امتدت إلى الرياضة السودانية، إذ أدت إلى تجميد النشاط ومضاعفة الخسائر في البنى التحتية التي تعاني في الأساس، فضلاً عن تدهور مستوى اللاعبين وإخفاق المنتخبات وبعض الأندية في البطولات القارية وخروجها من الأدوار الأولية للمنافسات الدولية.
تحولت العاصمة إلى ساحة معركة، ووصل القصف المدفعي إلى مقر اتحاد كرة القدم في الخرطوم، وشملت قائمة ضحايا الصراع المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع لاعبين ومدربين وإداريين، علاوة على تعرض بعض مقار الفرق الرياضية للسلب والنهب.
خيم الحزن على الشارع الرياضي السوداني برحيل لاعب فريق الفئات العمرية بنادي المريخ أحمد عبدالسلام إثر مقذوف ناري تسبب في تعرض اللاعب لإصابات بالغة أودت بحياته، وكان سبقه لاعب المنتخب الأولمبي السوداني وحي الوادي نيالا حسن بركية الذي توفي بطريقة مماثلة، ولقي مسؤول الإعلام باتحاد كرة القدم السوداني نائب رئيس نادي مريخ الفاشر السابق أمير أحمد حسب الرسول مصرعه بطلق ناري أمام منزله.
كما شهدت الأشهر الأولى للحرب رحيلاً حزيناً لعدد من أبرز نجوم الرياضة على رأسهم أسطورة حراسة المرمى بنادي المريخ حامد بريمة، أكثر اللاعبين تتويجاً بالبطولات، كما رحل فوزي المرضي قائد الهلال السابق متأثراً برحيل ابنته التي فارقت الحياة بعيار ناري خلال الاشتباكات المسلحة بين طرفي الصراع.
تحول مقر مدينة السودان الرياضية إلى مواقع عسكرية، وظل منذ بداية الحرب يتعرض للقصف وطلقات الرصاص، ويبدو أن الحلم الذي ظل يراود السودانيين منذ ستينيات القرن الماضي بتحويل المدينة الرياضية في الخرطوم إلى أكبر مؤسسة كروية في القارة الأفريقية سيطول وربما يتبخر حال استمرار المعارك الحربية.
ودشنت المدينة الرياضية في عام 1995 على مساحة تقارب مليوناً ونصف مليون متر مربع، لكنها لم تكتمل نتيجة فساد وسرقات وصفتها التقارير المحلية بأكبر عملية فساد أراض في البلاد، إضافة إلى التعدي على أراضي المدينة الرياضية بنسبة وصلت إلى 73%.
يبدو وبعد مرور عامين على نكبة السودان أن البلاد لم تنجُ من الحرب هذه المرة بمباريات كرة القدم، لكننا نأمل أن يزول الصراع في هذه المنطقة المنكوبة ومفتعليه إلى الأبد، ويعود إلى النور إلى شعوب هذه البلاد، وعلى رأسها السودان الحبيب.
# رياضة # كرة قدم # كرة القدم السودانية # منتخب السودان # كأس الأمم الأفريقية